قرار رفع الفائدة وخفض الجنيه.. أسبابه ونتائجه
اتخذت لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي في جلسته الاستثنائية يوم الإثنين 21 مارس 2022م، قرارين مهمين للغاية: الأول، يتعلق بالمرونة في سعر صرف الجنيه أمام الدولار وباقي العملات الأخرى، حيث تحدث بيان البنك عن إيمانه بأهمية مرونة سعر الصرف؛ وهو ما يعني تعويما نسبيا جديدا للجنيه بعد التعويم الأول الذي تم باتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي في 3 نوفمبر 2016م. والثاني هو رفع سعر الفائدة بنسبة 1% ليصل سعر الفائدة على الإيداع والإقراض إلى 9.25% و10.25%. في أعقاب البيان التقطت البنوك هذه الإشارة والسماح بتحريك سعر الجنيه مقابل الدولار بعد ست سنوات من التعويم النسبي حيث حافظ البنك المركزي على سعر الصرف عند الحدود المسموح بها من الدولة، وفي غضون ساعات انخفضت قيمة الجنيه من 15.64 إلى 18.4 بنسبة انخفاض بلغت نحو 17%.[[1]] فما الأسباب التي دعت الحكومة إلى خفض الجنيه في هذا التوقيت؟ وما الأهداف المتوقعة من هذه الخطوة؟ وما النتائج المترتبة عليها في ظل الارتباك الذي يسود العالم حاليا بسبب تداعيات تفشي جائحة كورونا ثم الغزو الروسي لأوكرانيا؟ معدلات التضخم هذه الخطوة تأتي في ظل تدهور الوضع الاقتصادي وفشل زيارات السيسي مؤخرا لكل من السعودية والإمارات والكويت في تحقيق المأمول منها بالحصول على مساعدات مالية تنقذ النظام من الورطة الغارق فيها. ورغم الادعاء بأن خطوة البنك المركزي تستهدف الحد من خطورة الموجة التضخمية إلا أن النتيجة الحتمية المترتبة على تعويم الجنيه مرة أخرى سوف تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم؛ ولذلك لجأ المركزي إلى زيادة سعر الفائدة بنسبة 1%، كما أعلن بنكا الأهلى ومصر الحكوميين طرح شهادات ادخار مرتفعة العائد لمدة عام، وصل العائد عليها إلى 18%. وعلى الأرجح فإن البنك سوف يلجأ إلى استمرار رفع أسعار الفائدة للحد من مخاطر التضخم الذي ارتفع إلى 10% خلال فبراير 2022؛ حيث يرتبط التضخم في مصر بسعر الجنيه مقابل العملات الأجنبية بسبب التأثير الكبير على أسعار الواردات في ظل عجز الميزان التجاري الكبير (الفارق بين الصادرات والواردات)، فمصر تستورد نحو 65% من غذائها من الخارج كما تستورد الكثير من المواد الخام التي تدخل في إنتاج العديد من الصناعات علاوة على استيراد نحو 40% من حاجتها من الوقود (تبلغ فاتورة الاستيراد نحو 76 مليار دولار سنويا). ويستهدف النظام برفع الفائدة مكافحة التضخم وتشجيع المدخرين على الاحتفاظ بالجنيه المصري وعدم الانزلاق نحو حيازة العملات الأجنبية أو ما يعرف باسم “الدولرة (ادخار الدولار)” خاصة مع توجه الفيدرالي الأميركي لرفع الفائدة على الدولار بنحو ما بين 2 و3% خلال العام الجاري. الأسباب والمستهدفات وبعيدا عن مزاعم الحكومة والبنك المركزي، فإن خطوة التعويم الحالية يستهدف بها النظام أمرين: الأول، هو محاولة الحد من تخارج الأموال الساخنة من السوق المصري، فقد هرب نحو (4.2 مليار دولار في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا). ووفقا لتقرير وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في فبراير 2022، فقد «بلغ حجم الاستثمار غير المقيم في سوق السندات المحلية في مصر 28.8 مليار دولار أمريكي في نهاية عام 2021، أو حوالي 56% من احتياطيات النقد الأجنبي وأصول العملات الأجنبية الأخرى للبنك المركزي المصري». وأضاف التقرير أن هروب هذه الاستثمارات بدأ قبل الحرب بشهور، ليصل إجمالي تلك الأموال الهاربة خمسة مليارات في الفترة بين سبتمبر وديسمبر الماضيين.[[2]] معنى ذلك أن مصر تخارج منها نحو (9,2) مليارات دولار من الأموال الساخنة خلال الشهور الست الماضية. وقد كشفت دراسة أصدرها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، أن ارتفاع أسعار القمح عالميا يمكن أن يؤدي إلى تضاعف الإنفاق على واردات القمح سنويا إلى 5.7 مليار دولار مما يمثل ضغطا ماليا على الحكومة المصرية ويُؤجج التضخم. وبالتالي فإن هذه الإجراءات (رفع سعر الفائدة + خفض قيمة الجنيه) مصممة لاحتجاز السيولة في السوق، وجلب المستثمرين الذين ينتظرون وصول الجنيه إلى أدنى مستوى له.[[3]] وتأتي خطوة البنك المركزي نحو مزيد من المرونة في تحرير سعر صرف الجنيه بعد أسبوعين فقط من تقديرات محللين من بنك الاستثمار “جيه.بي. مورغان” بأن الجنيه المصري مقوم بأعلى من قيمته الحقيقية بنسبة 15 بالمائة، مرجحين أن يكون خفض قيمته مطلوبا، لأن مصر قد تحتاج للمزيد من المساعدة من صندوق النقد الدولي إذا تزايدت الضغوط على أسواق المال. وهو عين ما انتهى إليه تقرير وكالة رويترز الذي أكد أن خطوة البنك المركزي تستهدف “الحفاظ على السيولة داخل السوق وجذب المستثمرين (تجار الديون) الذين ربما يقفون على الهامش انتظارا لهبوط الجنيه إلى حده الأدنى”. وزاد من الضغوط على الجنيه المصري رفع البنك المركزي الأمريكي في 16 مارس 2022، سعر الفائدة على الدولار بنسبة (0.25%) وهو ما يغري المتاجرين في أذون وسندات الديون المصرية بالهروب نحو السوق الأمريكي الأكثر قوة واستقرارا. وبالتالي فإن الهدف من خفض قيمة الجنيه هو الحد من هروب الأموال الساخنة، في ظل تراجع صافي الأصول الأجنبية لدى البنوك، والتي يمثل تراجعها لمستويات سالبة ضغطًا على قيمة العملة المحلية، حيث بلغ صافي الأصول الأجنبية سالب 7.1 مليار دولار، بنهاية نوفمبر 2021، بحسب بيانات البنك المركزي. ويمثل صافي الأصول الأجنبية حجم ما تملكه البنوك من أصول بالعملة الأجنبية (ودائع، أوراق مالية…)، مخصومًا منه التزاماتها بالعملة الأجنبية. ويعني تسجيله قيمًا إيجابية امتلاك البنوك فائض نقد أجنبي يفوق التزاماتها، أما صافي الأصول الأجنبية بقيمة سالبة فيعنى أن التزامات البنوك بالنقد الأجنبي تفوق ما تملكه منه. لكن بعض المحللين يذهبون إلى أن هذه الإجراءات (رفع الفائدة + خفض قيمة الجنيه) لن تكون كافية لاستعادة الأجانب إلى سوق الدين؛ لأن المستثمرين في الدين المصري (أصحاب الأموال الساخنة) لا يغادرون هذا السوق لأسباب تتعلق بالسوق المصري نفسه، وإنما ضمن ما يعرف باستراتيجية الأسواق الناشئة إجمالًا، والتي تحكم سلوك هؤلاء المستثمرين حيال الاستثمار في ديون الأسواق الناشئة عمومًا في أوقات الأزمات الشبيهة بالأزمة الحالية، ففي تلك الحالات تُتخذ قرارات صارمة بمغادرة تلك الأسواق، أيًا ما كانت المغريات فيها، إلى ملاذات أكثر أمنًا وعلى رأسها السوق الأمريكي. ولهذا لجأ النظام إلى صندوق النقد الدولي. الثاني، هو التمهيد لاتفاق جديد مع صندوق النقد الدولي، ويبدو واضحا أن مزاعم البنك والحكومة بأن الخطوة تستهدف الحد من مخاطر التضخم كانت للتغطية على حقيقة الأمر، وهو الاتفاق على قرض جديد (رابع) من صندوق النقد الدولي، وهو ما خلا منه بيان البنك المركزي؛ لكن صندوق النقد أعلن عنه رسميا بعد يومين فقط (الأربعاء 23 مارس 2022)، بالتأكيد على أنه تلقى طلبا من مصر لدعم برنامج إصلاح اقتصادي شامل، وتعزو رئيسة بعثة الصندوق في القاهرة سيلين ألارد، في بيان لها، أسباب لجوء الحكومة المصرية للصندوق بالتداعيات المرتبطة بالحرب في أوكرانيا الذي أربك سلاسل التوريد العالمية وأدى إلى ارتفاع كبير في أسعار السلع الأولية.[[4]] بالإضافة إلى تعزيز قدرة القاهرة على بسط مظلة الحماية الاجتماعية للطبقات الفقيرة؛ وهو ما يبدو للتغطية…